تحت قبّة قوس النصر

   الثامن من تمّوز عام 1934، كان يوم أحدٍ، يومًا زاهيًا وضَّاءً، كمعظم أيّام تمّوز، خصَّصتُهُ لمشاهدة بعض آثار "باريس" الشهيرة والتعرّف عليه، عن كثبٍ، فاخترقتُ "الحيّ اللاتينيّ"، حيّ الطلبة، حيث "السوربون" وسائر كلّيّات الجامعة، وعبرت الجسر، المنصوب فوق نهر "السَّان"، وتوقَّفتُ أمام كاتدرائيَّة "نوتردام"، والغزالة لم تبلغ بعد كبد السماء الصافية، وولجت فيها، ورأيتُ ما أدهشني من فخامة في العُمد، وفنّ البناء،ِ وجمال الزخرف، وحسن الزجاج الملوّن الثمين، وعرّجت صعودًا على قبّتها الشاهقة، عن طريق سلّمٍ لولبيُّ الشكل، فيه مئات الدرجات، تسلُّلًا على القدمين، إذ لا مصاعد ترفع الزائرين المتفرّجين، وأبصرت الجرس التاريخيّ الضخم المسمَّى "البُورْدُون"، ومعناه بالفرنسيّ "اليعسوب"، ثم انحدرتُ بدون جهدٍ كما صعدتُ مع المنحدرين، بعد أن متَّعتُ ناظريَّ بمعظم أحياء المدينة العالميّة وأرباضها، وهي التي يؤمُّها الناسُ من أنحاء الكوكب المعمور قاطبةً، وواصلت المسير في شمسٍ رحوم، مرورًا "بقصر العدل" وحدائق "التُّوَيْلري" الغاصّة بالمتنزّهين وطلاب المعرفة والعاشقين: فهنا طالبٌ على مقعدٍ حجريّ بيده كتابٌ، قد يكون خير صديق وجليس له، وأخرُ قاعدٌ على مقعد خشبيّ يُعنى بتصفّح جريدةٍ، وما أكثر قرَّاء الجرائد وما أرخصها في حاضرة العلم والنور، إذ إنّ ثمنها يعادل نصف فرنك، أي ما يساوي غرشين ونصف الغرش بعملتنا السوريّة اللبنانيّة، وهناك سيدةٌ أنيقة الملبس والمظهر تقود كلبين طيّعين في الجري، بدتْ كأنّها لا يهمُّها شيء سواهما من أمور دنياها، وهنالك شابّ وشابّة يتبادلان القُبل، في ظلّ شجرةٍ وارفة الظلّ، بدون خَفَر ولا خجلٍ من أحد، وكأنّ هذا شأنٌ طبيعيّ يخصّهما وحدهما، ولا ترى إنسانًا ينظر إليهما شزرًا أو يستنكر سلوكهما، كما نستنكره ونستقبحه نحن، أهل المشرق ونعدُّه نشازًا وخرقًا للآداب العامّة.

المِسلَّة: وأكملت طريقي مجتازًا ساحة "الكونكورد" الرحبة، التي تسمَّتْ، في زمن الثورة الفرنسيّة الكبرى، "بميدان الثورة"، الذي شهد رأسَي الملك والملكة، "لويس السادسَ عشرَ" و "ماري أنطوانتْ" يُقصلان ويتدحرجان أمام الجماهير الثائرة على حكم الملوك الجائر، والمنصوب عند نقطة دائرته "الأوبَالِسْكْ" أي المسلَّة الفرعونيَّة الهرميَّة الشكل، الرباعيَّة الأضلاع والزوايا، والمرتفعة عشرات الأمتار عن سطح الميدان، والشاهدة على عظمة الفراعنة الذين نحتوا هيكلها الأصمّ الداكن اللّون وصاغوها، منذ قبل عهد "عيسى" و"موسى" وهيام فرنسا الحضاريّة بجليل الأعمال، إذ نقلتها سفينةٌ فرنسيّةٌ خاصّة، في السنة 1836، في عهد الملك "لْوِيْ فِيليبْ الأوّل"، من أمام هيكل "أمِنحوتِب" الثالث الشهير الكائن في قرية "الأقْصُر" على خرائب "طِيْبَهْ"، بالصعيد، أي "قصر العليا"؛ فخرجتْ بها عن طريق نهر "النيل"، شمالًا، فالبحر المتوسّط غربًا، مرورًا بمضيق "جبل طارق" "فالمحيط الأطلنطي"، وصولًا إلى "الهافر فرُوانْ"، ومن ثَمَّ بواسطة نهر "السان" حتّى قلب "باريس" حيث نُصبتْ لتكون زينة لهذا الميدان المجاور لهذا النهر، كما كانت هي ومثيلاتها الكثيرات تزيّن الميادين ومداخل الهياكل والمعابد المصريّة الفرعونيّة، وعليها كتاباتٌ هيروغليفيَّة وصور حيوانات متنوّعة، ورسوم أشياء مختلفةٍ محفورة على وجوهها الأربعة، ولم يتمكّن علماء الآثار، حتّى الآن، من الإمساك بمفتاح كلّ ما تكنُّه، وترمز إليه، وتعنيه بالتمام.

ساحة النجمة: من ميدان "المِسلَّة" الفرعونية يمّمتُ ساحةً مشتهرة أخرى، هي ساحة "الإتْوَالْ"، وتفسيرها بالعربيّ "النجمة"، فبلغتها بعد سير متّئدٍ في جادّة "الشانزِيليزي" الفسيحة المقاهي وذات الشهرة الكونيّة، في وسطها "قوس النصر" المعدود من أعظم الأقواس في كلّ بقاع الأرض، وقد تميَّز "الرومان" بتشييدها منذ القدم، فنصَبوها لكبار قادتهم وغُزاتهم، تخليدًا لبطولاتهم؛ و"قوس النصر" هذا الذي شُيّد، بناءً على قرار "نابليون" الأوّل، الصادر في الثاني عشر من شباط عام 1806 م، يواجه الجادّة الذائعة الصيت، من مدخله الشرقيّ الشماليّ ويُطلُّ أيضًا على إثنتي عشرةَ جادّةً أو بولفارًا أخرى، تتوزّع في الجهات الأربع كأصابع المذراة أو الأخطبوط.

   جلستُ على مصطبة حجريَّة، في ظلّ قنطرة من قناطر هذا القوس الشاهقة، أمام ضريح "الجندي المجهول" والشعلة الدائمة اللَّهب والتوهّج، ليلها كنهارها، وقد أجهدني المشي الطويل، والوقت قارب الهاجرة، كما دلَّت عليه ساعة برج "إيفلْ" المطلَّة على معظم "باريس"، وأخذت أجيل ناظريَّ في كلّ صوبٍ، فبدت لي "المِسلَّة" المسهولة التي ذكرتُ، كأنّها عمود من نور، ولم يغب عن عينيَّ لا شارع "فوش" و"جورج الخامس" ولا الجادَّة المؤدّية إلى غابة "بولونيا"، مَنْظَرةِ العاصمة ومتنزّهها الأوّل، وجميعها مزروعة بآلاف المنائر والمصابيح الكهربائيّة؛ وبعد استراحة أعادت إلى جسمي النشاط، رأيت في خلالها أجمل وأنهى مشهد، يمكن أن تقع عليه عين إنسان:

الجادّات الرحبة، الميدانُ المزيَّن "بالمِسلَّة" الحجريّة الشاهقة، التي تُعيدك بالخيال، إلى أقدم حضارات هذا العالم، فبرج "إيفل" المذكّر بذكاء إنسانه الحديث وقصر "التّروكادِرُو" المشيَّد على تلال "باسّي" "Passy"، بمناسبة "افتتاح معرض باريس العالميّ" في العام 1878.

   تجوّلتُ، بعد تجوال النظر، حوالى النار الموقدة، وكأنّني في انتشاء مما شاهدتُ؛ واتّفق آنذاك، أن كانت هناك امرأةٌ، بلغت من العمر عتيًّا، تجلس قرب النار الرّامزة إلى تخليد البطولة والتضحية والنصر، مطرقةً بنفسها إلى الأسفل، لفتت انتباهي، فسألتُها عن حالها فأخبرتني أنّها معتادة، لا بل ناذرةٌ نفسها لزيارة "الجندي المجهول" و"الشعلة" التي لا تنطفىء، مرّةً كل حوْلٍ، تؤمُّها مشيًا على قدميها، على عتوّ سنّها، متذكّرةً ثلاثًا من فلذاتِ كبدها، ثلاثة أبناء لها وأخًا شقيقًا، استشهدوا في الحرب الكونيّة الأخيرة، التي خاضت غمارها "فرنسا" ضدّ عدوّها التقليديّ "ألمانيا"؛ وغير بعيد عنها أربعة جنود يقفون خاشعين قانتين، يحرسون المزار الذي بات مقدّسًا عندهم كمزارات الأولياء في بلداننا المشرقيّة العربيَّة .

   ورجعت أدراجي آيبًا إلى الجادة الشهيرة حيث جلست لأخذ قسطٍ من الراحة، والشمس انحدرت نحو المغيب، في أحد المقاهي، وتعرّفت على سيدة فيه تحتسي فنجان قهوة، استهواني الفضول، لمّا عرفتْ أنّني غريبُ الديار، فسألتها: هل تنظرين إلى الغرباء عندكم نظرة محبّة أم نظرة سخطٍ، كما ينظر إليهم العديد من جماعة اليمين المتطرّفة والعنصريّة، فجاوبتني غير متأفّفة من فضولي قائلة: أنا لا أكره إنسانًا أيًّا كان، ولا أمقُتُ شعبًا سوى شعب واحد، هو الشعب الألماني؛ لا تذكّرني به إنّه لشعب متوحّشٌ، وقد ذاق منه الفرنسيّون الأمرَّين، انظر ما يَصنعُ باليهود في بلاده، بقيادة الدكتاتور النازيّ "أدولف هتلر"، يضطهدهم، يقتل الآلاف منهم، يهجّرهم من منازلهم، بدون شفقة؛ لمَّا أسمعُ نغم الموسيقى العسكريّة، يرتعش فؤادي وأطربُ لأنّه يحيي في نفسي روح النخوة والأخذ بالثأر، من عدوّ مجاور لشرقيّ بلادي، سَفَك دماء الألوف من جنودنا البواسل، وإذا ما عادت رحى الحرب لتدور ثانيةً، فسوف أقاتل وأسفح دمي، فداءً لوطني "فرنسا" الجميلة العظيمة برجالها، فرنسا التي تستحقّ أن تبقى عالية، وعَلَمًا من أعلام المجد والحضارة الإنسانيّة!

   وما أن توقفت عن الكلام الذي طرق مسمعي، حتّى قلتُ: إنّي مُعجب بوطنيّتك يا سيّدتي، وتحمّسك للدفاع عن وطنك الجميل، والموت في سبيله، وبالروح الإنسانيّة التي تجلَّت في حديثك، والتي جعلتك تُشفقين على اليهود المضطهدين، في ديار شنَّت جيوشها هجمات بربريّة لا تزال آثارها البشعة ماثلةً أمام أنظاركم، حتّى في وسط العاصمة "باريس" التي هدَّمت قنابل الألمان فيها بعض مستشفياتها، وقد شاهدت ذلك بنفسي، وهو التوحّش بعينه، حقًا كما قُلت، ولكن، ألا يُمكن - وأرجو أن تأخذيني بحِلمك - أن تتجاوز إنسانيّتك "فرنسا" واليهود، وترفرف فوق البحر المتوسط، حتّى تبلغ "سوريا" و"لبنان" و "فلسطين"، فإنسانها حضاريّ مثل إنسانكم، وكلّها مظلومة، ومظلمتها واقعة عليها من دولتكم "فرنسا"، ودولة أخرى قريبة، يفصلها عنكم بحر ضيّق، هي "بريطانيا العظمى" التي وقفت معكم تُعارك في الحرب الكونيّة الأخيرة، التي انقضى على نهايتها عقد ونصف العقد من الزمن، إنّهما دولتان منتدبتان: "ففرنسا" التي بحبها تُهيمين، والمؤتمنة بموجب ميثاق جمعيّة الأمم وشرعتها، على "لبنان" و"سوريا"، لا تسلك اليوم مسلك الأمانة ولا تسعى لترقية شعبيهما الشقيقين كما يقضي العدل والإنسانيّة التي تقدّسين، ولا تعاملهما معاملة الوصيّ الشريف النزيه، ليبلغا درجة من التقدّم والرقيّ، تسمح لهما بالاستقلال والحريّة؛ و"بريطانيا العظمى" تضطهد أبناء "فلسطين"، وهي البلد المنتدبة، لأنّهم يحتجّون عليها، ويشجبون سياستها المرتكزة على مساعدة اليهود، وتسهيل هجرتهم إلى بلاد ليست لهم، بل لأصحابها العرب الأصيلين فيها منذ ما قبل المسيح، وقد وعدتهم بها "بريطانيا" بواسطة وزيرها اليهوديّ "بلفور"، خلال الحرب الكبرى الأخيرة، ظلمًا وبغيًا وبدون أيّ حق، غير حقّ القوة؛ واليهود يا سيّدتي، لولا خبْث طباعهم وأنانيّتهم وجشعهم وعدم إخلاصهم للوطن الألماني الذي يعيشون فيه ويتنعّمون بخيره، لما اضطهدهم "هتلر"، وشعب هتلر، وسواه من شعوب "أوروبا الشرقيّة" التي تمقتهم أيضًا، بسبب سوء تصرّفهم وعنصريَّتهم وتعصّبهم لدينهم واعتقادهم الفاسد بأنّهم شعب الله المختار!

   أصغتِ المرأة إلى قولي متعجّبةً منه، كما تعجَّبتُ أنا من وطنيّتها، وكأنّها لا تدرك شيئًا ممّا يحصل خارج "فرنسا" و "ألمانيا"، وأطرقتْ، ثمّ رفعت رأسها، مردّدة: نعم، أنا أكره الألمان أعداءَنا التقليديين، إنّما أكره كلّ ظالم وألعنه، حتّى ولو كان فرنسيًّا. ودَّعتُ هذه السيّدة، مع اعتذارٍ عن فضولي، لكنّها لم تستطع أن تسفّه ما نَسبتُ إلى دولتها فرنسا، المنتدبة على بلادنا، وقفلتُ عائدًا من حيث أتيت باكرًا، ورأسي مثقل بما استوعبه من شتّى المشاهد التي تُبهج الفؤاد وتسرّ النواظر وتغذّي العقول.

                                               يوسف س. نويهض

                                                   في آب 1934